فاطمة الكراب : مفتشة تربوية
كيف نؤسس لمدرسة مقاولة في منظومتنا التربوية؟
سؤال حاولت الإصلاحات التربوية المتعاقبة على المنظومة التربوية ببلادنا الإجابة عنه مرارا وهي ترفع في كل مرة شعارا من الشعارات الرنانة. ولكن عبثا كانت المحاولات ، وهباء ضاعت المجهودات.
المدرسة المقاولة، حلم كل المغاربة. كيف ننمي روح المقاولة في مواطن الغد ؟ وكيف نجعل للمتعلم خريج المدرسة، ملمح المقاول؟ وعندما نتكلم عن ملمح المقاول ، نعني بذلك المواطن الذي يمتلك الكفايات الضرورية لتشغيل نفسه بنفسه، يمتلك كفايات تجعله يبدع أفكارا مذرة للدخل ، أفكارا تجسد المقاولة ، أفكارا قابلة للتسويق.
عمد المنهاج المغربي منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي إلى استيراد معجم من عالم الاقتصاد ( الجودة – الكفاية – روح المبادرة – التدبير بالنتائج – المشروع- التعاقد- ….) وتطبيقها على التربية. ولكن التطبيق كان مبثورا، كان مجرد ترجمة حرفية لكلمات استعملت خارج السياق، وبالتالي فقدت المعنى، وانتجت الركاكة بدل البلاغة في التعبير. فأقحمت المقاربة بالكفايات في سياق يعتمد بيداغوجيا الأهداف وبدأ الأستاذ في قسمه يصيغ الكفاية عنوانا ويسعى في درسه إلى تحقيق الهدف السلوكي. وأخضع المتعلم قسرا لتقويمات تقيس الجودة. جودة التعلمات، ويا لها من تقويمات !!!
قبلت منظومتنا التربوية طوعا الدخول في رهان مضمون الخسارة مسبقا. تحدت قدرات المتعلم البسيطة مع إمكانيته المعرفية المحدودة أمام باقي متعلمي الأنظمة التربوية المصنفة عاليا في سلم جودة التعليم عالميا، وزجت بهم في سباق التقويمات الدولية. هذا يقيس المهارات القرائية والآخر يقيس مدى التحكم في العلوم والرياضيات و تسلقنا السلم في أعلى درجاته السفلى، وتجرعنا مرارة الإحساس بالفشل مرات ، وفي كل مرة نعيد نفس الكرة .
تعمق الجرح، وزاد النزيف، وتولدت القطيعة الجوفاء بين الأب المسؤول والأم الحنونة: الأسرة والمدرسة. انعدمت الثقة وتولدت أحاسيس باطنها الحب وظاهرها كراهية. ووقع الطلاق. وانحرف الأبناء، وزاغوا عن الطريق المستقيم، وتولدت أزمة قيم. فأصبح العنف سلوكا يتعايش معه الجميع ، والغش صار حقا مكتسبا، ووقعت هدنة ومصالحة مع كل أشكال التطبيع مع سلوكات مشينة وغريبة عن مدرستنا المغربية وعاداتنا وتقاليدنا وأعرافنا، قبلنا متعلما بزي ممزق وتسريحات شعر بشعة بدعوى الموضة والعصرنة، قبلنا إهانة الأستاذ في عقر قسمه بدعوى حرية التعبير، قبلنا الهواتف الغبية في حرم المؤسسات وداخل الفصول الدراسية ، حتى أضحى الأستاذ والمدير يخاف على نفسه من الظهور في صورة خنثى باستعمال خدع التصوير وتقنيات فطوشوب وغيرها من مظاهر العصرنة والتحضر والتقدم ووو.
أعلنت حالة أزمة. وتقرر البحث عن كيفية إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وتم اقتراح الحل : انفتاح المؤسسة على المحيط وإزالة الأسوار. في محاولة لتجاوز القطيعة، وتفعيل الحياة المدرسية عبر الأنشطة الإشعاعية والأيام التواصلية والحملات التحسيسية وعقد الشراكات مع الجمعيات والفعاليات والهيئات ووو. وكل ذلك إيمانا من الجميع بأن اليد الواحدة لا تصفق، وأن المسؤولية موزعة بين الجميع، كل من موقعه لإنجاح الإصلاح المنتظر وتحقيق الجودة المأمولة. وأصبحت المؤسسات تشتغل كالمقاولات بمخططات وبرامج، وآليات وهياكل، واجتهدت في إبداع الوصلات الإشهارية عبر الكم الهائل من الصور والفيديوهات المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي ، وأضحى لكل مؤسسة بدل الصفحة صفحااات على الفيس بوك وحساب في اليوتوب والتويتر بل حتى مواقع خاصة قائمة بذاتها. وأمطرت السماء وابلا من النشاطات والإبداعات والمشاركات في كل المسابقات.
ولكن يبقى دائما نفس السؤال هل نؤسس لمدرسة مقاولة في منظومتنا؟
مدرسة مقاولة تبدأ مع المتعلم يوم دخوله الأول للمدرسة، عندما يذهب إلى المدرسة وهو يعرف أنه في ذلك المكان سيتسلح بالعلم الذي يغذي عقله، هذا العقل عندما يأخذ كفايته من الغذاء السليم ويصل مرحلة النضج، سيولد أفكارا تفتح له أفاقا للعمل ، للاعتماد على النفس، وبالتالي إيجاد الرقعة المناسبة على الأرض للتموقع فيها ووضع اللبنة الأساس للمشروع المستقبلي: “المقاولة”.
إن المدخل الأساسي للمدرسة المقاولة أو المدرسة المقاولاتية، كما يسميها البعض، هو العمل بالمشروع (مشروع المؤسسة – مشروع القسم – مشروع النادي التربوي- مشروع المتعلم-…) كيف ذلك؟
يعتبر المشروع روح المقاولة، فإذا استطعنا تمكين المتعلم من كفاية العمل بالمشروع، حتما سيكون قادرا على ترجمة أفكاره مستقبلا لواقع عملي.
ينبني هذا التصور على جعل المنهاج الدراسي لكل مستوى تعلمي يهدف إلى جعل المتعلم في نهاية السنة الدراسية يتوصل إلى تقديم مشروع شخصي يكون ثمرة مجهوده الخاص الذي يدمج فيه كل التعلمات التي بناها وكل الكفايات التي تمكن منها خلال السنة، شريطة أن يكون هذا المشروع ذو طابع واقعي وقابل للتطبيق وجالب لمنفعة مادية ومعنوية ملحوظة وقابلة للقياس. وبهذا يكون معيار التقويم هو نسبة تحقق ونجاح المشروع الشخصي لكل متعلم. ويمكن الاشتغال بطريقة فردية أو في ثنائيات أو مجموعة من ثلاثة إلى أربعة أفراد.
في كل موسم يقترح المتعلم مشروعه الشخصي ويشتغل عليه طيلة السنة ، كما يمكن له أن يشتغل في الموسم الموالي على نفس مشروع السنة الماضية شريطة تطويره بإضافة كل ما اكتسبه من معارف وخبرات وكفايات في سنته الجديدة. وهكذا سيكون سنجد من المتعلمين من سيشتغل على مقاولته الخاصة ومشروع حياته منذ سنته الأولى في المدرسة. بهذا ستنخرط الأسرة والعائلة والأهل والجيران وكل المقربين في إنجاح مشاريع صغارهم من البداية إلى نهاية السبيل. سنحقق مكسب الشراكة الدائمة بين المجتمع المدرسي والمجتمع الكبير، لن يتوارى أحد عن الانخراط في إنجاح مشروع ابنه. وفي نهاية المطاف نحصل على المتعلم المقاول في وسط مدرسة مقاولة ضمن مجتمع يعمل على تنمية الحس المقاولاتي في أبنائه.
وهنا لابد من أن نعرج على مفهوم المشروع في المجال التربوي.
1 – تعريف مفهوم المشروع:
تعددت التعاريف التي أعطيت لمفهوم المشروع بتعدد منطلقاتها والتي تأسست على منظورات فلسفية ومعرفية مختلفة. فقد تمت استعارة “المشروع” من من حقل الهندسة المعمارية والمقاولات الصناعية والتجارية والخدماتية إلى المجال التعليمي التربوي.
فاشتقاقيا : مفهوم “المشروع” مستمد من كلمةprojet المحدثة في الفرنسية، والتي لم تتبلور دلالتها الاصطلاحية إلا في منتصف القرن العشرين. فالاشتقاق اللغوي لهذه الكلمة في اللاتينية يعني إلقاء أو رمي موضوع أو شيء ما إلى الأمام projection.
أما لغويا فكلمة “المشروع” في منجد اللغة والأعلام لها ثلاثة معان مختلفة:
أ- المشروع: ما سوغه الشرع، من الفعل شرع بمعنى سن شريعة.
ب- المشروع: المسدد، من الفعل شرع بمعنى شرعت الرماح، أي سددها وصوبها فتسددت وتصوبت.
ج- المشروع: ما بدأت بعمله، من الفعل شرع أيضا.
كما عرف معجم موسوعة التربية والتكوين المشروع بأنه ” سلوك استباقي يفترض القدرة على تصور ما ليس متحققا و القدرة على تخيل زمان المستقبل من خلال بناء تتابع من الأفعال والأحداث الممكنة والمنظمة قبليا.
أما الباحث الأنتروبولوجي الفرنسي بوتيني، فقد اعتبر أن المشروع هو” توقع إجرائي لمستقبل منشود”، يعني تمثل المستقبل الذي يصبو إليه الفرد. و أكد على أننا لن نتمكن من استيعاب مفهوم المشروع وفهمه، إلا إذا اعتمدنا على منظور ثلاثي الأبعاد:
– البعد الحيوي
– البعد البراغماتي
– البعد التنبئي
أما المشروع الشخصي فيتبناه الفرد ويتقبله نفسانيا ووجدانيا ويربطه بمنظور مستقبلي أوسع (مشروع حياة) و يعمل الجميع على مساعدته على تحقيقه بواسطة الممارسات التربوية الملائمة.
وعرف محمد آیت موحى المشروع الشخصي للتلميذ بأنه: “دفع التلميذ لأن یتحمل المسؤولة ویعطي أهمية للتفكير في مستقبله باعتباره مشروعا شخصيا، وذلك بتحريضه على إضفاء دلالة شخصية على المدرسة والتعليم المدرسي. وهكذا یتحول مشروع التلميذ إلى استثمار تدرجي مستقبلي یخول له إمكانية اختيار نوع الدراسات التي سيتابعها وكذا مستقبله المهني”.
وبالنسبة للدكتور محمد فتحي والدكتور جليل الغرباوي، فيعتبران أن “المشروع الشخصي للتلميذ هو حلقة تفاعل مجموعة من الأبعاد النفسية والتربوية والاجتماعية وتفاعل جهود عدة متدخلين ويندرج في إطار نزوع طبيعي نحو المستقبل في تفاعل مع الماضي والحاضر، يوجه التلميذ نحو بناء تاريخه الشخصي وبحث عن الإشارات والعلامات والعلاقات التي تؤهله للتحكم في الممكن، ويسمح له بتوقع وتخيل الممكن والمحتمل وتدبير الوقت والتكيف مع الاحتمالات والتغيرات غير المنتظرة، والاستعداد للتفاعل مع المحيط والقدرة على التعبير عن الذات وإثباتها وتمثل هويته الذاتية والجماعية.”
وهكذا يمكن أن نقول بأن المشروع الشخصي للتلميذ هو انخراط في المستقبل وانفتاح على آفاقه وإسقاط للذات في مساره من خلال معرفة الذات والمحيط وتحديد الهدف المبتغى وإعداد خطة يعتمدها التلميذ لتحقيق أهداف محددة من حيث نوعها وطبيعتها وبعدها الزمني عن طريق توقعها وتوفير الوسائل اللازمة والمؤهلات والقدرات المطلوبة لبلوغ تلك الأهداف.+
ومن خلال هذا السرد السريع للتعريفات التي أعطيت لمفهوم المشروع في المجال التربوي وربطه بالمشروع الشخصي للتلميذ، يتبين جليا كيفية انسجام الرؤية المقدمة حول كيفية تطبيق المدرسة المقاولة في منظومتنا التربوية، وبين المفهوم المشروع. إن المدرسة أصبح لزاما عليها تغيير خريطة طريقها في تربية الناشئة. فمهمة التثقيف لم تعد كافية لمستقبل أبنائنا، فهم محتاجون للتزود بالكفايات التي تؤهلهم لتشغيل أنفسهم بأنفسهم في ظل أزمة العطالة وضيق أفق التوظيف.