تمضي الأيام ويجري بنا قطار العمر.. لا يتوقف ولا ينتظر.. ومحطاته هي ذكريات لما مر من أيام ومواقف وأشخاص وأحداث؛ وأعمالنا أو وظائفنا تأخذ حيزًا كبيرًا من حياتنا ووقتنا وجهدنا وصحتنا وكذلك ذكرياتنا.
والتعليم كان وما زال وسيبقى رسالة سامية نبيلة لن يقلل منها ولا من رفعتها وأهميتها الانحدار في كثير من الأمور والقيم والأخلاق الذي نعيشه هذه الأيام؛ بل هذا يجعله أكثر أهمية وصعوبة.
وكم أفتخر أنني قضيت جلَّ سنيِّ حياتي وأنا في التعليم، طالبة ثم معلمة ومديرة، مربية أجيال خرجت على أيديها المئات بل الألوف.
نعم.. أنا الآن مديرة مدرسة.. أعود بذاكرتي إلى هذا اليوم الذي طُلب مني فيه أن أجري مقابلة لاختيار مديرات.. لن أخوض في تفصيلاته، ولكنه كان مفاجئًا لي في حدوثه ووقته، ولم يكن معي سوى دقائق لا تتعدى الربع ساعة لأخذ القرار في الدخول لإجراء هذه المقابلة والتي بعدها تقرر أن أكون مديرة.
ربما تتساءلون ما الداعي لذكر هذه النقطة فأقول إنني قلتها لأؤكد أنه عندما يقدر الله لنا أمرًا أو شيئًا نحصل عليه بدون أن نسعى إليه، وإن لم يكن مقدرًا لنا فلن نحصل عليه حتى لو حاولنا كثيرًا؛ وفي كلٍّ خير بإذنه تعالى؛ والمهم أن نقوم به كما يرضيه سبحانه مهما قابلنا من مصاعب ومغريات وفتن.
طبعًا قبل أن أكون مديرة كنت معلمة، ومنذ تخرجي من جامعة بيت لحم درَّست اللغة الإنجليزية للمرحلة الثانوية لسنين عديدة، تنقلت خلالها في عدة مدارس؛ وبتوفيق الله وفضله زرعت بذورًا أينعت ثمارًا طيبة أقطفها لغاية الآن من طالباتي اللواتي علّمتهن ويحفظن لي في قلوبهن كل خير ومودة وتقدير.
طالباتي اللواتي هن وردات متناثرة هنا وهناك، في أماكن وأعمال كثيرة متنوعة. وهذا هو الكنز الحقيقي والمكافأة الصادقة لمن يعمل في مهنة التعليم والتي لا تنقطع ولا تنتهي بانتهاء العمل.. ولي الآن عدة سنين في الإدارة ولا أنسى في عملي وتعاملي مع طالباتي أنني في يوم كنت طالبة، وكذلك مع معلماتي أنني في يوم كنت معلمة.
فهذا الأمر يساعد في التقارب معهن وفهمهن وتقدير ظروفهن المختلفة قدر الإمكان. فإن المرونة مطلوبة كما الحزم مطلوب، وتطبيق القوانين يسبقه التعامل بروح القانون، فنحن نتعامل مع بشر وإنسان وليس مع آلات وأجهزة.. ولأنني ممن يطبق بعض الشعارات أو الأقوال أو الحكم في حياته وعمله، فهنا أطبق مقولة “لا تكن صلبًا فتُكسر ولا ليّنا فتُعصر” أي: “كُن ليّنا من غير ضعف، وشديدًا من غير عنف”، وأيضًا: “لكل مقام مقال”؛ فلكل موقف وظرف أسلوب في التعامل معه ربما لا يصلح للتعامل في موقف آخر.
هذا الأسلوب يساعد في جعل الجو في المدرسة وبين المعلمين مريحًا هادئًا فيه التعاون والراحة النفسية قدر الإمكان، وليس جوَّ صراع وتباعد ومشاحنات على كل صغيرة وكبيرة، مع أن الأمر لا يخلو طبعًا من بعض توتر أو ضغط أو شد هنا أو هناك لأن هناك أمورًا لا مجال للتهاون أو المرونة فيها.
مطلوب من كل راعٍ أن يراعي الله في رعيته كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، والمدير في مدرسته هو قائدها ومسؤول عمن فيها من طلبة ومعلمين، رغم كثرة أعبائه وأشغاله ومسؤولياته وتعددها، خاصة في بلادنا ومدارسنا.
ففي مدارسنا دور المدير ربما هو أصعب دور في مديرية التربية والتعليم، مع عدم التقليل طبعًا من جهد وتعب الجميع سواء في المدارس أو مديريات التربية.. فكما أقول دومًا المدير عبارة عن مديرية تربية كامل بكل أقسامه، فعليه أن يكون مديرًا وقائدًا، محاسبًا يفهم في المالية، مسعفًا أوليًّا بل أحيانًا طبيبًا، ومرشدًا نفسيًّا، يفهم في التقنيات والتكنولوجيا، عليه أن يعرف أبجديات عدد من المهن والحرف، حدادة، نجارة، دهان، بناء، زراعة، كهرباء، تمديدات مياه، صيانة، وحتى رجل جاهات عشائرية.
وعليه أن يكون متقنًا لمبادئ الاتصال والتواصل: هادئًا، حكيمًا، طويل البال، متحدثًا لبقًا، عطوفًا، حازمًا ومرنًا حسب الموقف، عادلاً، محبًا لمن يعمل معهم، أي يكون إنسانيًا.
ومطلوب أن تكون له مائة يد ورجل وعين وأذن وذاكرة حديدية لا تنسى حتى يحيط بكل ما في مدرسته لأن أي خطأ أو خلل هو المسؤول الأول عنه رغم توزيع المهام والتفويض.
وقبل هذا وبعده وأثناءه عليه أن يكون مثل الإسفنجة التي عليها أن تمتص أقوال وأفعال وطلبات وانفعالات وغضب ومزاج الجميع، الطلاب والمعلمين والمراجعين والأهالي والمسؤولين والزوار.
وإن حصل وقصّر في أي مما سبق أو أخطأ فهذا يؤخذ عليه وكأنه ليس بشرًا أو يتعب أو يخطئ.. وإن حصل وغضب أو فلتت أعصابه.. ينسى العديد إنسانيته المعهودة ويأخذون عليه هذه اللحظات وكأنه ليس من حقه أن ينفعل أو يغضب، وإن عاتب في هذا يقال له: ألست أنت المدير؟؟ حدا أجبرك تصير مدير!! تحمل..!!
ورغم كل شيء فأنا لم أندم يومًا أنني صرت مديرة مدرسة.. ويا رب يكون عملي في ميزان حسناتي.. فيكفيني رؤية نتيجة جهدي وعملي في طالباتي وبناتي على مدى سنين عملي.
جملة (أنا بحبك يا مديرة) من الزهرات الصغيرات اللواتي ينطقنها بكل براءة وصدق بعيد عن رياء ونفاق الكبار تمسح كثيرًا من آثار التعب والإرهاق؛ وردة بيد إحداهن تهديني إياها وهي تبتسم قائلة قطفتها لك يا مديرة تجعلني أتأكد أن من يزرع حبًا يحصد حبًا؛ ومن يوزع وردًا تبقى الرائحة عالقة في يده.. فانظروا دومًا إلى بصيص النور في كل نفق، وإلى طلوع الفجر بعد كل ظلام.. هذه ليست سيرة ذاتية ولكنها بعثرة كلمات من أوراقي مديرةً.. تتبعها بإذن الله بعثرات وكلمات أخرى.
سوسن عابدين
سوسن عابدين